إلى صديقنا العلوي .. يشتاقون فيتعذبون ‏

‏ رباح آل جعفر

يريدني الصديق الأديب والكاتب الأستاذ حسن العلوي أن أعثر له على بقايا أثر من بيت شعر جميل ، حفرته أنامله قبل خمسة عقود من الزمن في جذع نخلة في بستان على جرف نهر في وقت غروب ، عندما كان مدرّساً للغة العربية في ثانوية حديثة ، فاستعار هذا البيت من ديوان الشعر العربي يخاطب حبيبته الحديثة :
‏إنّا تقاسمنا الغضا فغصونه ..
‏في راحتيك وجمره في أضلعي
‏وتفهّمت الأمر ، وفسّرته بأنه شوق وبكاء وحنين إلى ماض لن يعود ، وأعلم أن عملية استعادة الشوق بعد طول فراق تشبه عملية جراحيّة لفتح القلب .. إنها جمع صور متناثرة اندرست وتلاشت تحت الأقدام .
‏ولقد قرأنا عن طه حسين أنه كان ينتظر أياماً على موعد حبيبته ، فإذا انتهى اللقاء ونهض يودعها ، جلس بعدئذ وهو ذو البصر الكليل ، يتلمّس المقعد الذي كانت تجلس عليه سوزان ، فيلوذ بالصمت طويلاً حين لا يشفي الكلام غليلاً لمشتاق !.
‏وعند المحبّين لا فرق بين تمثال المحبوبة ، أو منديل فيه بقايا من عطرها ، أو أثر من أحمر الشفاه .. وبقايا منديل الحبيبة ليس قطعة من قماش ، إنما قطعة من القلب .. وأحياناً لا يسلّي العشاق شيء في هذا العالم إلا هذا المنديل !.
‏وجلسنا نفتّش يوماً أنا والصديق الدكتور طه جزاع في أوراق قديمة للفيلسوف مدني صالح ، فعثرنا على رسالة هزّتنا من الأعماق ، بعثها إلى ابن خالته من لندن حين كان يدرس الفلسفة في جامعة كامبردج ، يقول له فيها : إنه يحنّ إلى زجاجة عطر فارغة ملقاة على سطح بيتهم القديم في هيت !.
‏إنها زجاجة فارغة أحبّها مدني وهام بها في لهفة ، وملأت عليه قلبه بدنيا لم تستطع أن تملأها لندن ، ليكتب الغائب البعيد كلمات من لوعة وحسرة وألم على قرطاس وحيطان وأبنية وأطلال تتساقط حجراً حجراً ، وبقايا مدن ساكتة لا تنطق بحرف .
‏فهذا ينعى مدناً جار عليها الدهر فأقبل من بعده قوم غرباء ، وذاك ارتفع صوته في هدأة الليل يغنّي في شعر ابن الفارض ( سائق الأظعان يطوي البيد طي ) حتى ينقطع الصوت ، ويضيع الصدى ( أينما تذهب به الريح يذهب ) .
‏وإذ دموع تنهلّ ، وإذ عبرات تحتبس في الحلوق ، فقد أحسن الشاعر الأموي ذو الرُمّة في قوله :
‏ألا ليت أيّام القلات وشارع ..
‏رجعن لنا ثمّ انقضى العيش أجمعُ
‏والله الله !.. هذا البيت قصيدة ، وهذه القصيدة ديوان ، وهذا الديوان من اللوز ، ومن الفستق المقشّر ، وهذا البيت ساقية في البحر الضائع !.
‏وأبو نؤاس سخر من شعراء المعلقات ، الذين كانوا يقفون في أشعارهم بالبكاء والشكاة والعويل على الدّمن والأطلال ، وهو القائل :
‏قل لمن يبكي على رسم درس ..
‏واقفاً ، ما ضرّ لو كان جلس ؟!.
‏وما أصعب البوح بأسماء نحبّها ، ومدن وقرى نحنّ لها ونشتاق ، في زمن المواجع والتذكارات الحزينة . نتلفّت حوالينا نبحث عن أحد منهم فلا نرى أحداً .. فمن الذي أضاع الآخر في عتمات الوحشة ، وخيبات الأمل ، وزحمة الدروب ؟!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *