لو كانت في العمر بقيّة
رباح آل جعفر
يُقال : إن إرادة الحياة أقوى من إرادة الموت !.
سألتُ يوماً عالم الاجتماع أستاذنا علي الوردي : لماذا لا توافق على المثل المتداول بين الناس ( الذكر بعد الموت عمر ثان ) ؟ قال : إن الذكر لا ينفع الإنسان بعد موته ، فإن الدود سوف يأكله سواء أكان مشهوراً ، أم مغموراً .. أمّا حساب الله في الآخرة فهو يختلف عن حساب الناس في الدنيا ، وربّ مغمور هو أفضل عند الله من ألف مشهور !.
وكان الأستاذ عزيز السيّد جاسم يقول : إنه ( يسوعيّ ) في المحبّة ولا صلة له بالكراهيّة ، وسألته : هل يخاف دنوّ الأجل ؟ وقال : إنه يشتاق إلى موته ، عملاً بقوله تعالى : ( وعجلت إليك ربّ لترضى ) .
وسمعت من الشاعر عبد الوهاب البياتي ، يقول : الحياة لغز غامض ، والإنسان ذرّة تتطاير في النور . الموت مجرّد كلمة ، والحياة مجرّد كلمة ، وكلّ العالم كلمات في كلمات ، ومن دون الإنسان ليس هنالك في الجبّة شيء ( ما في الجبّة إلا الإنسان ) . ولم أفهم ماذا يقصد .. ولم يسألني ماذا فهمت ؟!.
وعندما التقيت العالم والعارف الرباني المتصوّف عبد الكريم بيارة المدرّس تحت أفياء منارة القطب الغوث عبد القادر الكيلاني كان عمره مائة عام وقد غدا جثة هامدة متوسّداً تخته الخشبيّ ، وكان يقول : كلّ ذي حياة يخاف من موته ، ولا يعجبه موته ، وإنه لم تبق له في الأجل من فسحة سوى التوبة ، ورفع يديه إلى السماء ، واعوّل في البكاء ، قائلاً : اللهمّ جنّبنا مصارع السوء .
وفي الأيام الأخيرة من حياته طفحت الآلام بالأديب الأستاذ عبد الغني الملاح وغامت الدنيا في عينيه ، وكان يردّد شعراً من المقامة البغدادية للحريري بخاطر منكسر حزين ، قائلاً :
أشكو إلى الله اشتكاء المريض /
ريب الزمان المتعدّي البغيض .
وعندما دخل الكاتب الموسوعي عبد الحميد العلوجي العقد السابع من عمره بدأت الأمراض تأكل من جسده . ويومها قال العلوجي عن نفسه : إنه صار يماثل خراب البصرة بعد عدوان الزنج ، وإنه في انتظار رحلته الأبدية التي كان يعتقد أنها لن تكون مخيفة أو مفزعة ، لأن ما زرعه في دنياه سيجني ثمره مثوىً كريماً تحت سدرة المنتهى .
وعندما مات الإمام محمد عبده سار في جنازته سبعة شعراء ووقفوا يُلقون عند قبره المراثي ، وتنبّأ أحد الأدباء أن هؤلاء الشعراء السبعة سيموتون بالتتابع وبحسب ترتيب إلقائهم قصائدهم . ولقد حدث أن صدقت النبوءة ومات الشعراء بالتوالي وكان سادسهم حافظ إبراهيم وآخرهم أحمد شوقي .
وكان القدماء يضعون نعوش الموتى إلى جانبهم لعلهم يتذكرون الموت . وكانت آخر كلمات قالها الأديب توفيق الحكيم لمن حوله من الأصدقاء : أسرعوا أيها الأعزاء فنحن في انتظاركم . والأديب مصطفى لطفي المنفلوطي لم يمش في جنازته سوى سبعة أشخاص . والشاعر الطبيب إبراهيم ناجي مات بالسكتة القلبية في اللحظة التي كان يفحص في عيادته قلب أحد مرضاه ( فعاش المريض ومات الطبيب ) . وعندما مات الشاعر البائس عبد الحميد الديب قال في رثائه كامل الشناوي : اليوم مات شاعر جاع .. وشبعت الكلاب .
لكن أغرب من رأيت وعرفت ذلك الشاعر العجيب صفاء الحيدري . كان صفاء ينام مدفوناً تحت تراب بيته في البتاوين ، وعاش في عزلته وحيداً مع كلبه ( بلاكي ) ، فكان الاثنان ينامان على سرير واحد ، ويأكلان من ماعون واحد ، وكنت أعجب كيف لهذا الكلب أن يفهم مشاعر صفاء ، ويبادله أحزانه ، ويسمع نصائحه ، ويقوم على خدمة ضيوفه ، فلمّا مات صفاء لم يحتمل ( بلاكي ) الصدمة والفراق ، فمات بعده بيوم واحد !.