تقرير صادم لصحفي اجنبي مليشيات تتحكم بمصير العراق وترعاها جهات متنفذة

سيل نيوز / متابعة

تنشر وكالة سيل نيوز ترجمة منقولة لصحفي اجنبي ، تتبع عمليات الفساد والتهريب التي تجري في العراق واليكم نص الترجمة

 

“في أوائل أكتوبر الماضي، أثناء العمل في مكتبه في بغداد، تلقى رجل أعمال يدعى حسين لقيس مكالمة هاتفية من رقم لم يسبق له رؤيته من قبل. قال المتصل “نحن بحاجة إلى التحدث”. كان صوت الرجل واثقًا من نفسه، ومهددًا قليلاً. طلب أن يأتي “لقيس” للقائه لكنه رفض ذكر اسمه.

تردد لقيس، وانتهت المكالمة. ربما يكون قد نسي المكالمة بأكملها، لولا مكالمة لاحقة من أحد الزملاء بعد بضع دقائق حملت أخباراً مقلقة. المتصل الغامض كان من كتائب حزب الله، وهي ميليشيا عراقية قوية لها علاقات قوية مع الحرس الثوري الإيراني، كان لديهم اقتراح عمل للمناقشة.

عندما اتصل عناصر الميليشيا مرة أخرى، وافق لقيس على مضض على عقد اجتماع. جمع بضع زملاء، وتوجهوا جميعًا إلى منزل بالقرب من شارع السعدون وسط مدينة بغداد، في الداخل، اقتيد إلى مكتب خافت الإضاءة، وقُدِّم إلى شخص أصلع، قال الرجل الأصلع: “أنت بحاجة إلى العمل معنا، وليس هناك خيار آخر، يمكنك الاحتفاظ بموظفيك، ولكن يجب أن تفعل ما نقول”. وأوضح أن كتائب حزب الله ستأخذ 20 بالمائة من إجمالي عائدات شركة “لقيس”، حوالي 50 بالمائة من أرباحه.

رفض “لقيس”، كان لشركته، “بالم جيت” عقد حكومي مدته خمس سنوات لإدارة صالة “في آي بي” في مطار بغداد الدولي، إلى جانب فندق قريب؛ كما أنها تعمل بشكل روتيني مع شركات الطيران الغربية مثل    .Lockheed Martin

لم يكن لديه أي تعاملات مع جماعة مثل كتائب حزب الله، التي أدرجتها الحكومة الأمريكية كمنظمة إرهابية أجنبية (كما هو الحال مع الجماعة اللبنانية غير ذات الصلة التي تسمى أيضًا حزب الله).

رد الرجل الأصلع بأنه إذا رفض “لقيس”، فسيستولي على كل ما يملكه في بغداد. حدّق لقيس بالرجل الأصل، وقال له “أنا مستثمر، هناك قانون”

رد الرجل الأصلع: “نحن القانون”. وطلب من لقيس أن يجيبه ظهرًا في اليوم التالي.

 

بعد ظهر اليوم التالي، توجهت خمس سيارات شيفروليه وخرج منها اثنا عشر رجلاً يرتدون ملابس شبه عسكرية سوداء ويحملون أسلحة. وجدوا “لقيس” في مقهى فندق المطار، كان يجري اتصالات مع الحكومة منذ الليلة السابقة، إلى جانب رؤساء أقسام المطار. لا أحد منهم أعاد الإتصال به، كان الأمر كما لو أنهم قد تم تحذيرهم، أو ربما استلموا حصصهم.

أخذت الميليشيا هاتف “لقيس” وأمروه بالتوقيع على وثيقة تتخلى عن عقده. لقد توقف لبعض الوقت. تسلل أحد موظفيه إلى الخارج لالتقاط صورة عبر الهاتف المحمول لمركبات عناصر الميليشيات، لكنهم أمسكوا به وحطموا هاتفه وضربوه.

كان “لقيس”، وهو لبناني، يعمل في العراق منذ عام 2011. كان يعلم أن البلد يعاني من الجريمة والفساد، لكنه يعتقد أن المطار، مع مئات من مسؤولي الهجرة والأمن النظاميين، كان مختلفًا.

قال لي “لقيس” في وقت لاحق: “انتظرت 20 دقيقة، ربما سيأتي شخص ما، الشرطة .. شيء”. وأخيرًا، سار إلى صالة المغادرة وذهب في رحلة إلى دبي.

بعد أيام، قامت كتائب حزب الله بتثبيت مقاولها المفضل في مكانه. ولم يعد “لقيس” إلى العراق منذ ذلك الحين.

وقعت حادثة المطار هذه بعد أربعة أيام فقط من بدء الاحتجاجات المناهضة للحكومة العراقية (1 تشرين الأول 2019)، حيث كان آلاف المتظاهرين الشباب يغمرون شوارع بغداد ومدن أخرى، وهم يرددون شعارهم المؤثر: “نريد وطن” أو “نريد دولة”.

ملأ المتظاهرون بسرعة ميدان التحرير في قلب بغداد، وأقاموا الخيام وخاضوا مواجهات  ضارية مع الشرطة. على الرغم من أن الفوضى تسببت بإغلاق الطرق في المدينة، إلا أنها اكتسبت تعاطف العرب في جميع أنحاء المنطقة، مما أشعل حركة احتجاج قوية في لبنان.

بالنسبة لأولئك الذين شاركوا في المسيرات، فإن مجموعات مثل كتائب حزب الله ليست مجرد وكلاء إيرانيين. إنها أحدث وجوه كليبتوقراطية أثرت نفسها على حساب شباب العراق الذين تركوا عاطلين عن العمل ومعوزين بأعداد متزايدة باستمرار.

في غضون ذلك، انضم بعض قادة الميليشيات إلى صفوف أغنى رجال العراق، وأصبحوا مشهورين بشراء مطاعم راقية، ونواد ليلية ومزارع غنية على نهر دجلة.

لقد كونت الميليشيات طبقة سياسية عراقية جديدة، أخلاقياتها الوحيدة هي إثراء الذات. على مر السنين ، أتقنت هذه العصابة عبر الطوائف الحيل على جميع المستويات: عمليات التضليل الروتينية لنقاط التفتيش، والاحتيال المصرفي، والاختلاس من الرواتب الحكومية.

كان عادل عبد المهدي، الذي تم الترحيب به باعتباره مصلحًا محتملاً عندما أصبح رئيسًا للوزراء عام 2018، يأمل في إخضاع الميليشيات للدولة، لكن بدلا من ذلك، تمكنت الميليشيات من التغلب عليه، وضمت حكومته أشخاصاً لهم صلات ببعض أسوأ مشاريع الكسب غير المشروع التي ابتليت بها البلاد.

 

الولايات المتحدة متورطة

إن الولايات المتحدة متورطة بشدة في كل هذا، وليس فقط لأن غزواتها دمرت البلاد وساعدت على تدمير الاقتصاد. بل تقدم أمريكا الأموال.

ما يزال الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك يمد العراق بما لا يقل عن 10 مليارات دولار سنويًا بالعملة الصعبة من مبيعات النفط في البلاد. وقد تم تمرير الكثير من ذلك إلى البنوك التجارية، ظاهريا للواردات، في عملية اختطفتها منذ فترة طويلة عصابات غسل الأموال في العراق.

في الوقت نفسه، تفرض الولايات المتحدة عقوبات على دولتين – إيران وسوريا – تشترك معهما العراق حدودياً، إنها أرض خصبة للفساد.

 

ربما تكون إدارة ترامب قد صدمت الميليشيات العراقية بالاغتيال غير المتوقع في كانون الثاني / يناير لقاسم سليماني في مطار بغداد. لكن الوكلاء الإيرانيين مثل كتائب حزب الله لا يبدون قلقًا مفرطًا.

إنهم يعرفون أن الرئيس ترامب ليس لديه شغف كبير للحرب، خاصة في ظل كوفيد 19. إن أولويتهم القصوى هي الحفاظ على نظام عراقي يتم فيه بيع كل شيء حرفيا.

 

لقد دفعت جائحة الفيروس التاجي العراق الآن إلى حافة أزمة وجودية. أدى الانهيار العالمي للطلب على النفط إلى انخفاض الأسعار بشكل تاريخي، مما أدى إلى صدمة رهيبة لبلد يعتمد اقتصاده بالكامل تقريبًا على عائدات النفط. لكنها قد توفر أيضا فرصة استثنائية لرئيس الوزراء العراقي الجديد مصطفى الكاظمي لمواجهة أكثر مشاكل بلاده صعوبة.

يمكن الآن اعتبار الفساد قضية حياة أو موت، يجب على العراق أن يختار بين إطعام شعبه أو إثراء اللصوص الحاكمين.

لقد وعد الكاظمي بمواجهة هذا التحدي. من غير المرجح أن ينجح ما لم تغتنم الولايات المتحدة هذه الفرصة لإلغاء بعض الأضرار التي ألحقتها بالعراق، ولخلق قضية مشتركة مع المتظاهرين الذين يأملون بإعادة بناء بلدهم على أساس جديد.

 

في سجلات الدبلوماسية الأمريكية، كان للفساد وضع ملتبس منذ فترة طويلة: إستنكار في العلن، ولكن في الممارسة العملية يُنظر إليه غالبًا على أنه مقبول ومفيد.

أخبرتني سارة تشايس في مايو / أيار أن “الفساد ليس مجرد مشكلة سياسية أساسية، ولكنه المحرك الأهم لمعظم المشاكل الأمنية التي من المفترض أن نحاول معالجتها”.

يوثق كتاب تشايس، عام 2015 ، “Thieves of State” ، الآثار المدمرة للفساد عبر مجموعة من البلدان في إفريقيا وآسيا.

اعتمد الكتاب على تجاربها في أفغانستان، حيث عاشت لسنوات قبل أن تصبح مستشارًا في البنتاغون ورأت كيف ساعد الابتزاز المتفشي وزرع حكومة مدعومة من الولايات المتحدة في دفع السكان المحليين إلى أحضان طالبان، وقد يكون العراق درسًا أكثر تجسيداً.

 

نمو الفساد: من صدام إلى المالكي

في الثمانينيات من القرن الماضي، كان الفساد نادرًا، وكانت الوزارات في حكومة صدام حسين الاستبدادية نظيفة ومعظمها جيدة.

جاء التغيير خلال التسعينات، عندما فرضت الأمم المتحدة عقوبات معوقة بعد غزو صدام للكويت. وخلال سبع سنوات فقط، انخفض دخل الفرد في العراق من حوالي 3500 دولار إلى 450 دولارًا.

مع انهيار قيمة رواتبهم، لم يستطع المسؤولون الحكوميون البقاء دون تلقي رشاوى، والتي أصبحت عملة الحياة اليومية.

ازداد التعفن سوءًا بعد غزو عام 2003، عندما بدأ الضباط الأمريكيون بتوزيع الأموال في محاولة لتكوين صداقات ودفع الاقتصاد.

ربما كانن نواياهم حسنة، لكن تسرعهم الأخرق كان كارثيًا، اصطفت مجموعة جديدة من الانتهازيين، بما في ذلك المنفيون العراقيون العائدون، للحصول على عقود حكومية كبيرة.

فُقدت المليارات واتسعت السرقة على نطاق واسع بعد الطفرة النفطية عام 2008، بفضل شبكة من الأوليغارشيين بتمكين من رئيس الوزراء نوري كمال المالكي.

 

عندما سيطر داعش على شمال غرب العراق منتصف عام 2014، كانت القوات العراقية المكلفة بمواجهة التنظيم قوامها 350.000 جندياً، وهي أكبر بكثير من الألوية “الجهادية” المهاجمة.

في الواقع، تم تدمير الجيش من خلال “الفضائيين” ، حيث كان القادة يحصلون على مئات، بل آلاف، من الرواتب.

دمرت هذه الممارسات الروح المعنوية داخل الجيش وغذت الغضب الشعبي بين المدنيين في الموصل، الذين أصبحوا أكثر تقبلاً لداعش مما كانوا عليه في السابق.

وجدت دراسة حديثة لأشخاص في منطقة الموصل، بقيادة مبادرة هارفارد الإنسانية، أنهم رأوا الفساد سبباً رئيسياً لظهور داعش.

 

مابين 125 إلى 300 مليار دولار!

ليس من السهل تقدير التكلفة الكاملة لما سرق من العراق. تتم الصفقات نقدًا، ويصعب الحصول على الوثائق وغالبًا ما تكون إحصاءات الحكومة غير موثوقة. ومع ذلك، تشير المعلومات المتاحة إلى أن العراق ربما يكون قد استنفد ثروته الوطنية بشكل غير مشروع في الخارج أكثر من أي دولة أخرى.

قام رجل دولة عراقي أقدم لديه خبرة طويلة في مجال التمويل بتجميع تقييم سري لمجلس الأطلنطي، وهو مركز أبحاث أمريكي، بناءً على محادثات مع المصرفيين والمحققين والاتصالات في مجموعة متنوعة من الدول الأجنبية، وخلص إلى أن ما بين 125 مليار دولار و 150 مليار دولار يمتلكها عراقيون في الخارج، معظمها “تم الاستحواذ عليها بشكل غير قانوني”. مشيراً إلى أن التقديرات الأخرى تصل إلى 300 مليار دولار، وقدر أنه يتم استثمار نحو 10 مليارات دولار من الأموال المسروقة في عقارات لندن وحدها.

إن الحساب الكامل يمتد إلى ما هو أبعد من الفاتورة المالية إلى الضرر الذي لحق بثقافة ومجتمع العراق، وهي النقطة التي سمعت في كثير من الأحيان أن العراقيين الأكبر سنا يثيرونها بحزن شديد خلال السنوات التي عشت فيها هناك.

 

نماذج من حصص الأحزاب.. والوزير المستقيل 

قد تبدو الحياة السياسية وكأنها حرب عصابات، لكن سطحها المضطرب يخفي في معظم الأيام عملاً هادئًا ومبهجًا للنهب، في كل وزارة حكومية، يتم تخصيص أكبر الغنائم بالاتفاق غير المكتوب على فصيل أو آخر.

لدى الصدريين وزارة الصحة، ولدى منظمة بدر منذ فترة طويلة وزارة الداخلية، ووزارة النفط تابعة للحكمة.

أحيانًا يواجه القادمون الجدد صعوبة في التكيف مع هذا الوضع، اكتشف أحد الوزراء السابقين -وهو تقني قضى عقودًا في الخارج- لدى وصوله إلى منصبه، أن وزارته كانت تشتري لقاحات بعقد 92 مليون دولار، وجد طريقة أخرى لشراء نفس اللقاحات بأقل من 15 مليون دولار. قال لي “بمجرد أن فعلت ذلك، واجهت قدرا كبيرا من المقاومة، حملة شرسة ضدي”.

كانت أولويته معالجة الفجوة بين ثروة النفط العراقية ونظامها الصحي المدمر، الذي يفتقد الوصول إلى العديد من الأدوية الأساسية، أما بالنسبة لخصومه، فقد كانت الضرورة الوحيدة هي مصالحهم ومصالح أحزابهم.

قرر الوزير في النهاية أن هاتين الفلسفتين لا يمكن التوفيق بينهما، واستقال. (مثل معظم الأشخاص الذين تحدثت إليهم في هذا المقال، تحدث بشرط ألا أستخدم اسمه. الفساد هو الطريق الثالث للسياسة العراقية: لمسه يمكن أن يقتلك أنت أو أقاربك بسهولة).

 

الزعماء السياسيون الذين يرأسون هذا الكسب غير المشروع معروفون جيدًا. بعضهم حلفاء مخلصون للولايات المتحدة، استخدمت عائلات بارزاني وطالباني في كردستان سيطرتهم على عقود تلك المنطقة وبنكها المركزي ليصبحوا أغنياء للغاية.

المالكي وحلقة المقربين له ما زالوا يسجلون حضوراً على الساحة السياسية العراقية.

مقتدى الصدر، رجل الدين الشيعي الزئبقي، هو عراب آخر يشتهر أتباعه بمطالبتهم بعمولات ضخمة.

 

2014 وإثراء الفصائل

كان من المفترض أن يتلقى هذا النظام هزة عام 2014، عندما استولى داعش على المدن، لكن عوضاً عن ذلك، كانت النتيجة الرئيسية هي ظهور سلالة جديدة من الطفيليات: الميليشيات التي ساعدت في هزيمة داعش، والمعروفة مجتمعة باسم الحشد الشعبي، أو قوات الحشد الشعبي.

الحشد هو اتحاد فضفاض للجماعات المسلحة، وبعضها موجود منذ عقود. في عام 2016، اعترف رئيس الوزراء حيدر العبادي بها كجزء من قوات الأمن في البلاد، ويتقاضون الآن رواتب منتظمة مثلما يحصل عليه الجنود وضباط الشرطة.

 

من بين أقوى تلك الفصائل، كتائب حزب الله، التي تُتهم بشن هجوم على قاعدة جوية عراقية في ديسمبر أسفرت عن مقتل مقاول أمريكي وأدت إلى اغتيال سليماني بعد أسبوع.

على الرغم من مكانتها البارزة، إلا أنها محاطة بالغموض، يقول مايكل نايتس، المحلل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الذي تابع الفصيل منذ تأسيسه: “لا نعرف شيئًا تقريبًا عن القيادة”، إنهم مثل تنظيم الماسونيين، يمكنك أن تكون فيه وتكون في حركة أخرى في نفس الوقت،  لقد بنت إمبراطورية اقتصادية، من خلال شق طريقها إلى الشركات الشرعية والعقود الحكومية”.

 

’مطار بغداد: هدف مشترك لكتائب حزب الله والعصائب’ 

من بين مشاريع الميليشيات الأقل شهرة والأكثر إثارة للقلق، تقدمها التدريجي للسيطرة على مطار بغداد.

بدأ الأمر قبل عدة سنوات، عندما بدأت كتائب حزب الله وميليشيا أخرى مدعومة من إيران تسمى عصائب أهل الحق في وضع العمال الموالين لهما في جميع أنحاء المطار بشكل خفي، وفقا لمسؤول كبير في المطار تحدثت معه. وتمكنوا أيضًا من النفوذ إلى G4S، وهي شركة بريطانية لديها فترة طويلة.

المسؤول قال أيضاً إن عقد الأمن في المطار ذهب لتوظيف عناصر الفصيلين. (لم توافق G4S على الإدلاء بتعليق).

ونتيجة لذلك، أصبح بإمكان الميليشيات الآن الوصول إلى جميع كاميرات CCTV بالمطار وإلى طريق محدود الوصول يسمى Kilometer One الذي يربط المدارج بمحيط المطار، متجاوزًا الحواجز الأمنية، قال لي المسؤول: عندما ضربت طائرة بدون طيار أمريكية قاسم سليماني وحاشيته في يناير/ كانون الثاني، كنت قد خرجت للتو من هذا الطريق).

وأخبرني المسؤول، عندها كانت عناصر الميليشيات تحتجز مدير مطار بغداد تحت تهديد السلاح وأجبرته على توظيف عنصر مخلص لها كنائب.

في أواخر أكتوبر، حصلت شركة هي واجهة لكتائب حزب الله، على عقد مدته 12 عامًا في مطاري بغداد والبصرة، تبلغ قيمته عشرات الملايين من الدولارات سنويًا، على الرغم من أن الشركة كان عمرها شهرين فقط ولم تحصل على الاعتماد أو الترخيص اللازم.

تم إنهاء العقد في ذلك الحين، لكن الشركة التي استحوذت على شركة صالة V.I.P. والفندق من “حسين لقيس” ما تزال في مكانها.

 

 

إن مطار بغداد ليس سوى واحدة من البوابات الاقتصادية التي تسيطر عليها الميليشيات الآن. لقد استخدموا تهديد داعش لتثبيت أنفسهم في معظم الحدود البرية للبلاد. وقد سيطرت الميليشيات على معظم التجارة عبر الموانئ الجنوبية للعراق لأكثر من عقد من الزمان.

في الواقع، تعمل الميليشيات في الظل، وتفرض على المستوردين رسومًا أعلى مقابل تسهيل الإدخال والتوصيل.

لديها لجان اقتصادية وتفتتح مكاتب في بغداد، حيث يمكن للشركات الخاصة إبرام صفقات للتحايل على القنوات القانونية في البلاد.

قال لي مسؤول المطار: “على سبيل المثال، إذا أحضرت 100 سيارة من دبي وقمت بالإجراءات القانونية، فقد يستغرق الأمر شهرين لإخلائها، أما إذا دفعت لكتائب حزب الله، على سبيل المثال، 10000 دولار إلى 15000 دولار، فقد يستغرق الأمر يومين فقط”.

 

الوضع “مناسب” للولايات المتحدة

الأموال التي غذت انحدار العراق إلى كليبتوقراطية، تنبع، في الغالب، من مجمع الاحتياطي الفيدرالي شديد الحراسة في شرق روثرفورد، نيوجيرسي.

هناك، كل شهر أو نحو ذلك، شاحنة محملة بأكثر من 10 أطنان من العملة الأمريكية المغلفة بالبلاستيك، أموال بقيمة 1 مليار دولار إلى 2 مليار دولار يتم نقلها إلى قاعدة جوية وتتوجه جواً إلى بغداد. وهي تابعة للحكومة العراقية، التي توجه عائدات مبيعات النفط من خلال حساب في مجلس الاحتياطي الاتحادي في نيويورك.

هذا الترتيب غير العادي هو إرث من الاحتلال الأمريكي، عندما سيطرت أمريكا مباشرة على الحكومة العراقية وأموالها. وقد بقي الحال على ماهو عليه لأنه يناسب كلا الجانبين: يحصل العراقيون على وصول سريع وتفضيلي إلى الدولارات، وتحتفظ الولايات المتحدة بنفوذ هائل على الاقتصاد العراقي.

ظاهريا، الشحنات الدورية للدولار (جزء صغير من عائدات النفط الإجمالية للبلاد) هي لتلبية احتياجات شركات الصرافة والمستوردين العراقيين، الذين يحتاجون إلى أموال نقدية. أما من الناحية العملية، وجدت الكثير من الدولارات طريقها إلى أيدي من يقومون بغسل الأموال والجماعات الإرهابية والحرس الثوري الإيراني، وذلك بفضل طقوس غير معروفة يديرها البنك المركزي العراقي تحت مسمى “مزاد بيع الدولار”.

 

مزاد بيع الدولار

كان مزاد بيع العملة يسمى “نظام الصرف الصحي للفساد العراقي”، ولكن نادرا ما يتم الكتابة عن أعماله الداخلية.

إن مخططات الاحتيال التي تدور حوله قد غذت كل الأطراف في الحرب الأهلية السورية، بما في ذلك داعش.

بذلت وزارة الخزانة الأمريكية جهودًا جادة لإبعاد دولارات المزاد عن أيدي داعش وإيران، لكنها غالبًا ما تغض الطرف عن أنواع أخرى من غسيل الأموال. وقد وجد الإرهابيون مرارًا وتكرارًا شركات وأساليب جديدة لإخفاء مشاركتهم في المزاد، غالبًا بتواطؤ من مسؤولي البنك المركزي.

 

تسمية مزاد مضللة؛ إنها عملية يومية يقدم فيها البنك المركزي العراقي دولارات لعدد محدود من البنوك التجارية في البلاد مقابل الدينار العراقي.

قامت سلطات الاحتلال الأمريكية بتأسيسها في عام 2003 لخدمة غرضين: جمع ما يكفي من الدينارات لدفع المرتبات نقدا إلى أسطول الموظفين الحكوميين في العراق ومساعدة البلاد على دفع ثمن الواردات التي تشتد الحاجة إليها بالدولار.

من حيث المبدأ، يشبه المزاد العملية التي تستخدمها بعض الدول الأخرى لتسهيل التجارة الخارجية. كان من المفترض أن تعمل على النحو التالي: شركة تعتزم استيراد الأحذية من الهند، على سبيل المثال، ستذهب إلى بنكها المحلي العراقي بفاتورة من شركة الأحذية الهندية. يقوم البنك المحلي بالتصديق على المعاملة وإيداع المبلغ المطلوب بالدينار العراقي لدى البنك المركزي، والذي يقوم بتحويل الدولارات إلى حساب جهة التصدير.

 

بدأت المشكلة بمد هائل من الأموال القذرة: العراقيون الذين سرقوا مبالغ كبيرة من خلال عقود احتيالية أو خطط رشاوى كانوا متعطشين لتداول دنانيرهم بالدولار، حتى يتمكنوا من استخدامها في الخارج.

من أجل هذا، بدأت فئة جديدة من الانتهازيين بتسجيل الشركات المزيفة واختلاق الفواتير المطلوبة لمحاكاة صفقة الاستيراد، والتي سيتم تمويلها بعد ذلك عن طريق المزاد بالدولار. في غضون أيام، يمكن لشخص ما قام بالاحتيال على بلده بالملايين، أن يصبح مالك منزل ريفي في لندن. تركت الواردات الزائفة أدلة شحيحة، لأنه تم توثيقها ببطاقات هوية وصور لأشخاص حقيقيين، يوافقون على لعب دور مسؤولي الشركة مقابل رشوة.

 

في كل مرة يشك فيها البنك المركزي العراقي أو بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، فإن المحتالين سيعدلون لعبتهم في المقابل. قال لي مصرفي عراقي سابق، وهو واحد من العديد من الممولين والمسؤولين الحكوميين السابقين، “كانت هناك مكاتب صغيرة يديرها شباب لإنتاج أعمال تزوير محترفة، ثم يتكفلون بإنهاء الملف بأكمله”.

لتجنب دفع الضرائب على الواردات المزيفة، سيسجل القائمون بغسيل الأموال عشرات الشركات، ويتركونها ويخلقون شركات جديدة كلما كانت ضرائبهم مستحقة.

قاموا بإشراك سلطات المنافذ الحدودية، ودفعوا للمسؤولين لتزويدهم بالكشوف المزيفة بأختام تبدو حقيقية.

سيطر غاسلو الأموال في نهاية المطاف على معظم مبيعات الدولار اليومية للبنك المركزي، والتي بلغ مجموعها وفقًا لأرقام البنك المركزي  أكثر من 500 مليار دولار منذ عام 2003. (هذا الرقم أعلى بكثير من كمية الدولارات الفعلية التي تم نقلها إلى العراق من الاحتياطي الفيدرالي، لأن معظم الدولارات التي يبيعها البنك المركزي هي تحويلات إلكترونية من عائدات النفط العراقي).

 

بطيخ وطماطم إيرانية بمليارات الدولارات!

كان الاحتيال واضحا في بعض الأحيان. في عام 2017، استورد العراق رسمياً ما قيمته 1.66 مليار دولار من الطماطم من إيران – أكثر من ألف مرة الكمية التي استوردها في عام 2016. كما أدرج واردات بقيمة 2.86 مليار دولار من البطيخ من إيران، بقيمة تفوق 16 مليون دولار عن العام السابق. هذه الكميات ستكون غير منطقية حتى لو لم يزرع العراق كميات كبيرة من الطماطم والبطيخ.

أخبرني الاقتصاديون أن أرقام الاستيراد الرسمية هذه – التي لا تزال مرئية على موقع وزارة التخطيط العراقية – يبدو أنها كانت محاولة تغطية سيئة لغسيل الأموال عبر المزاد بالدولار.

 

وقد مكّن المزاد أيضًا مخططًا للاختلاس على نطاق واسع، قام بتمرير مليارات الدولارات إلى وسطاء نافذين في العراق.

استند هذا الاحتيال على الفرق بين سعر الصرف الثابت الذي يقدمه البنك المركزي – المرتبط بالدولار – وسعر السوق المتذبذب، والذي غالبًا ما يكون أعلى بكثير.

بعد فترة وجيزة من بدء المزاد في عام 2003، أدرك القائمون على غسيل الأموال أنهم إذا تمكنوا من تزوير صفقة استيراد، يمكنهم بعد ذلك إعادة بيع الدولارات التي حصلوا عليها من البنك المركزي، وتحقيق ربح فوري من فارق السعر.

بمجرد أن أدرك الزعماء السياسيون العراقيون حجم الأموال التي سيتم جنيها، سيطروا على حق الوصول إلى المزاد.

الشركات العادية والبنوك التي ترغب في القيام بالواردات أو الإقتراض المشروع تم طردها من قبل أولئك الذين يدعمون الأحزاب السياسية والميليشيات الرئيسية.

ولإخفاء هذا الاستحواذ، اشترى الأثرياء البلوتوقراطيون (طبقة المتسلطين الأثرياء) الجدد، جميع البنوك التجارية المتبقية تقريبًا، وحولوها إلى مجرد معابر لأموال المزاد.

من المستحيل تحديد عدد المليارات التي تمت سرقتها من خلال فارلق سعر الصرف، لكن العديد من المصرفيين السابقين والمسؤولين العراقيين أخبروني أن هذا النوع من الاحتيال يمثل معظم الواردات المزعومة التي يمولها مزاد الدولار منذ حوالي عام 2008.

وتشير التقديرات بناء على ارقام موقع البنك المركزي ومعلومات من مصرفيين عراقيين ومسؤولين ماليين، إلى نحو 20 مليار دولار، كلها سرقت من الشعب العراقي.

بعض البنوك التي تحقق أرباحًا هائلة من المزاد ليست أكثر من واجهات، مع مكاتب فرعية متداعية ونادراً ما يوجد أي موظفين في تلك الشركات.

اشترى أحد البنوك 4 مليارات دولار في المزاد، بإجمالي ربح 200 مليون دولار، قال لي أحد أعضاء البرلمان الذي حقق في قضايا الفساد: “لقد فحصنا هذا البنك، كان يحتوي على غرفة واحدة وجهاز كمبيوتر وبعض الحراس”.

 

لم يكن الضرر الناتج عن الغش في المزاد يتعلق فقط بالأرباح غير المشروعة.

مع تحول المصارف التجارية العراقية إلى أدوات للمراجحة (بفارق السعر)، تُركت الشركات العادية دون الحصول على القروض التي تحتاجها للنمو. واضطر بعض المستوردين الشرعيين، غير القادرين على الحصول على دولارات من المزاد، إلى استخدام البنوك الأجنبية بدلاً من ذلك.

من الصعب معرفة مقدار الضرر الذي ألحقه ذلك بالاقتصاد، لكن جميع المحللين الذين تحدثت إليهم قالوا إن ذلك كان مدمراً، ويجوع القطاع الخاص في البلاد ويجعل العراق أكثر اعتماداً على عائداته النفطية، التي تم خفضها إلى النصف خلال الأشهر الأخيرة.

 

“بطل غير مرغوب به”

زعيم عراقي واحد فقط بذل جهودا جادة لكشف الجرائم المحيطة بمزاد الدولار، وكان بطلا غير مرغوب به.

قاد أحمد الجلبي، المصرفي والسياسي الذي ساعد إدارة بوش في تبرير غزوها للعراق، تحقيقًا برلمانيًا في مزاد الدولار الذي بدأ عام 2014. وكشف عن وثائق تورط بعض أكبر البنوك في البلاد وأصحابها في عمليات احتيال واسعة النطاق.

وبينما كان متوقعًا أن يكشف المزيد من الفضائح، توفي الجلبي بنوبة قلبية في نوفمبر 2015. (على الرغم من التوقيت المشبوه، لم يجد تشريح الجثة أي دليل على ارتكاب خطأ).

لم يتعرض المصرفيون الذين حددهم الجلبي في تحقيقاته لأي عواقب وما يزالون يواصلون أعمالهم.

 

 

يستمر المزاد حتى يومنا هذا، وكذلك غسيل الأموال والسرقة التي تحيط به.

في بعض الأيام منتصف آذار الماضي، سجل الموقع الإلكتروني للبنك المركزي مبيعات بالدولار تجاوزت 200 مليون دولار – أكثر من مليار دولار في أسبوع عمل واحد- من المفترض أن تدفع جميعًا مقابل الواردات. في ذلك الوقت، كانت جائحة الفيروس التاجي تغلق الاقتصاد العراقي.

قد تكون بعض هذه الواردات مشروعة، لكن المصرفيين الذين تحدثت إليهم قالوا إن الأرقام تشير إلى استمرار غسيل الأموال على نطاق واسع.

ومن العلامات الصارخة الأخرى للاحتيال، إجمالي المبلغ اليومي للدولارات التي يبيعها البنك المركزي لمكاتب الصرافة العراقية، والتي من المفترض أن يستخدمها فقط العراقيون المسافرون إلى الخارج.

في منتصف تموز، كانوا متوسط البيع مستمراً ​​ما بين 10 إلى 11 مليون دولار يوميًا، على الرغم من إغلاق مطار بغداد منذ آذار حتى 23 تموز، وما تزال قيود السفر قائمة.

هناك أيضًا أدلة على أن المزاد يواصل تقديم الأموال للجماعات الإرهابية.

في تشرين الأول / أكتوبر، أصدر مجلس الاحتياطي الاتحادي في نيويورك رسالة إلى البنك المركزي العراقي يطالبه بمنع بنكين ومكتب صرافة من استخدام مزاد الدولار، مشيراً إلى أن لديه سبب للاعتقاد بأن الكيانات الثلاثة “تابعة أو متورطة في التعاملات المادية مع داعش أو جماعة لها علاقات معها. والكيانات الثلاثة مملوكة لممول يدعى حسن ناصر جعفر اللامي، المعروف أيضا في الدوائر المالية العراقية باسم “ملك الفواتير المزيفة”.

في كانون الثاني / يناير، أجرى موظف في البنك المركزي العراقي مقابلة مع محطة تلفزيون لبنانية زعم فيها أن اللامي كان ما يزال يستخدم المزاد، من خلال بنوك أخرى غير تلك التي ذكرها الاحتياطي الفيدرالي.

 

في بعض الحالات، يبدو أن البنك المركزي تحايل عن عمد على جهود مجلس الاحتياطي الفيدرالي أو وزارة الخزانة الأمريكية.

في عام 2018، فرضت وزارة الخزانة عقوبات على آراس حبيب كريم، وهو شخصية سياسية مكلفة بتوجيه الأموال إلى الحرس الثوري وحركة حزب الله اللبنانية.

كما فرض عقوبات على البنك الذي يديره، والمعروف باسم بنك البلاد الإسلامي. لكن بدلاً من تجميد أصول كريم، أمر البنك المركزي العراقي في أكتوبر بإعادة 40 مليون سهم في بنك البلاد يملكها كريم وعائلته، وفقًا لوثيقة للبنك المركزي حصلت عليها.

عندما سألت مسؤولي الخزانة عن عمل البنك المركزي العراقي، قدموا بيانًا معلبًا: “تواصل الخزانة العمل بشكل وثيق مع حكومة العراق بشأن الامتثال للعقوبات الأمريكية.”

 

ضربة واحدة لن تكفي

إن العراق قصة تحذير واعتبار لبقية دول العالم، توضح مدى السرعة التي يمكن أن تحققها عمليات الفساد ومدى صعوبة عكس هذه العملية.

لا يستغرق غبار التواطؤ وقتًا طويلاً حتى يغطي الجميع تقريبًا، كما هو الحال في أفغانستان أو الصومال أو فنزويلا.

يقول ريتشارد ميسيك، الذي أمضى عقودًا في دراسة الموضوع وهو المساهم الأول في مدونة مؤثرة تراقب الجهود العالمية لمكافحة الفساد: “يصبح نظامًا مستدامًا ذاتيًا، لا يمكنك اتخاذ إجراء في منطقة واحدة، لأنها كلها مرتبطة ببعضها البعض، لذلك عليك تغيير مؤسسات متعددة في نفس الوقت”.

من الصعب القيام بذلك بدون قوة خارجية، كان تدخل حكومة الولايات المتحدة ضرورياً في القضاء على الكسب غير المشروع المنتشر في شيكاغو، الذي بلغ ذروته خلال عشرينيات القرن الماضي، عندما كان رجل العصابات آل كابوني يضع عمدة المدينة على جدول رواتبه.

هناك عدد قليل من السوابق التي نجحت فيها عملية تنظيف بلد بأكمله من الفساد في العصر الحديث، باستثناء بعض الدول الاستبدادية مثل سنغافورة، حيث قام رئيس الوزراء السابق لي كوان يو بالقمع بشدة في الستينيات.

 

 

كي كارد 

أكبر عقبة منفردة للإصلاح في العراق هي اعتماد البلاد الساحق على النقد، الذي يصعب تتبعه وبالتالي يسهل غسيل الأموال.

إن نقل المزيد من العراقيين إلى النظام المصرفي – حيث تترك المدفوعات أثراً يمكن اقتفاؤه- كان هدفاً لدعاة مكافحة الفساد في البلاد لسنوات.

لكن الانتقال من السيولة محفوف بالمخاطر بحد ذاته، فالتقنيات الجديدة عرضة للاستحواذ أيضاً من قبل الأوليغارشية، الذين يمكنهم تحويل تلك التقنيات إلى أدوات أكثر فاعلية لغسيل الأموال.

تقدم واحدة من أكثر خطط الاختلاس وقاحة في العراق صورة شبه كاملة لهذا الخطر، حيث كان يهدف استخدام جهاز يسمى Qi Card، إلى دفع الدولة نحو المدفوعات الإلكترونية.

تم تطويره من قبل شركة تسمى البطاقة الذكية الدولية، وهو يسمح للموظفين الحكوميين والمتقاعدين باسترداد مرتباتهم الشهرية نقدًا في أي من آلاف المحطات في جميع أنحاء البلاد. إنه ابتكار مرغوب به شعبياً، فقبل ظهور بطاقة Qi Card عام 2007، كان على العمال في كثير من الأحيان الانتظار في الطابور لساعات خارج أحد البنوك الحكومية للحصول على أموالهم.

تتنافس الشركة الآن مع شركات بطاقات صغيرة أخرى، وتعلن عن نفسها عبر لوحات إعلانية ضخمة تحت شعار “انضم إلى أكبر عائلة”.

إنها تقدم نفسها كشركة تقنية محلية تساعد في إدخال العراق إلى عصر المعلومات، مع صور على موقعها على الإنترنت لعمليات التسجيل البيومترية والعملاء السعداء الذين يسددون المدفوعات النقدية، لكن ارتباطها بتوزيع رواتب موظفي الدولة منحها قوة هائلة.

عام 2019، وفقًا لتقرير صادر عن البنك المركزي، دفعت الحكومة ما يقارب 47.5 مليار دولار لموظفيها والمتقاعدين – وهو مبلغ ضخم لبلد بحجم العراق – وقد مر معظم ذلك من خلال Qi Card.

هذا يجعل الأمر أكثر جاذبية، حيث يبدو أن الشركة تعمل دون إشراف تقريبًا، وفقًا للمسؤولين الذين تحدثت معهم والوثائق التي حصلت عليها من وزارة المالية العراقية والبنك المركزي.

لقد تجاوزت متطلبًا قانونيًا لدمج نظام الدفع الخاص بها مع شبكة الدفع الوطنية للبطاقات. وهو ماكان سيسمح للبنك المركزي بمراقبة التعاملات.

تصف الوثائق الجهود المحبطة لجعل Qi Card مسؤولة عن معاملاتها، إلى جانب شكاوى المتقاعدين العراقيين الذين يقولون إن Qi Card قد استُخدمت للاقتطاع من رواتبهم. (قال الرئيس التنفيذي لشركة Qi Card، الذي تم الوصول إليه عبر البريد الإلكتروني، إن الشركة تلتزم بجميع اللوائح ذات الصلة وأن معاملاتها تخضع للمراقبة المباشرة من قبل البنك المركزي، بالإضافة إلى مراجعتها بشكل دوري من قبل المؤسسات المستقلة).

 

“الفضائيون في الحشد الشعبي”

تحت هذا التعتيم على البيانات، يتم استخدام بطاقة Qi Card من قبل شخصيات الميليشيات المدعومة من إيران الذين يديرون مخطط “موظفين أشباح” (فضائيين) على نطاق واسع لسرقة مئات الملايين من الدولارات من الرواتب الحكومية، أخبرني العديد من المسؤولين الحكوميين، بما في ذلك شخص قريب من المكتب المالي للحشد. أخبرني هذا المسؤول أن الحشد سجل حوالي 70.000 جندي (فضائي) للمدفوعات الإلكترونية عبر بطاقة Qi Card. (لم يكن من الواضح ما إذا كان هذا قد تم بمعرفة مدراء Qi Card أو دون علمهم).

كان (الجنود الأشباح) نموذجاً من نماذج التمويل الذاتي لضباط كبار في الجيش والشرطة العراقية لسنوات، ولكن يبدو أن Qi Card قد سمحت بنقل هذه الخدعة إلى مستوى أعلى.

يبلغ متوسط ​​راتب أحد أعضاء الحشد حوالي 1000 دولار شهريًا، مما سيجعل إيرادات البرنامج أكثر من 800 مليون دولار سنويًا. أخبرني المسؤول أن هذه العملية تمت بسرية تامة من قبل شخصيات قوية ذات علاقات عميقة مع إيران، بما في ذلك أبو مهدي المهندس زعيم الميليشيا الذي اغتيل في يناير مع قاسم سليماني.

تحقق Qi Card أيضًا أرباحًا هائلة من الرسوم التي تفرضها على المعاملات الإلكترونية. أخبرني مسؤول عراقي كبير آخر أن بعض هذه الأرباح يتم تقاسمها مع شخصيات بارزة أخرى تدعمها إيران.

 

قال لي المسؤول إن مؤسس Qi Card، وهو رجل أعمال يدعى بهاء عبد الهادي، بقي بعيداً عن النقد لسنوات من خلال إقامة علاقات تجارية مع أقوى أفراد العراق، بما في ذلك قادة الميليشيات الذين تربطهم علاقات وثيقة بإيران.

واحد منهم هو عمار الحكيم، وهو رجل دين شيعي بارز وثري سياسي.

آخر هو شبل الزيدي، الأمين العام لميليشيا تدعى كتائب الإمام علي، الذي أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات عليه في 2018 بسبب تعاملاته المالية مع الحرس الثوري وحزب الله.

صلة ثالثة مع نصر الشمري، زعيم جماعة أخرى مدعومة من إيران تسمى حزب الله النجباء. (لكن متحدثة باسم Qi Card أخبرتني أن عبد الهادي لا علاقة له بالحكيم أو الزيدي أو الشمري).

في الوقت نفسه، بذلت Qi Card جهودًا للتعبير عن نفسها للمسؤولين الأمريكيين، والتي يبدو أن بعضها قد نجح.

في أوائل عام 2018، اقترح أحد المساعدين الجدد لترامب، ماكس بريموراك، على وكالة تابعة للأمم المتحدة أن تستخدم بطاقة Qi للمعاملات، وفقًا لتقرير نشر في مايو من قبل ProPublica.

كان “بريموراك” يقوم بأعمال استشارية في ذلك الوقت لشركة Markez، وهي شركة أمريكية عراقية استأجرتها شركة Qi Card.

أفادت ProPublica أن الأمم المتحدة لم تتعاقد مع شركة Qi Card، لكن عرض “بريموراك” أثارت شكوى أخلاقية من قبل مسؤول في وزارة الخارجية. (عندما سُئل عن الشكوى، رد “بريموراك” بإرسال مذكرة تشير إلى أنه لم يتم فتح تحقيق). ومضى ليصبح مساعدًا لنائب الرئيس مايك بنس.

إن محاولات  Qi Card في النفوذ إلى الأوساط الأميركية الأمريكية تذكر بأن الفساد يمكن أن يشمل أكثر بكثير من المكافآت والملاذات الضريبية.

ساعدت الأزمة المالية العالمية لعام 2008، التي كشفت عن روابط مشبوهة بين السياسيين والمضاربين، في تغذية الحركات الشعبوية التي لا تزال تزعج أوروبا والتي تسببت بانتخاب دونالد ترامب، الذي جعل الفساد وصفًا مناسبًا بشكل متزايد لحياتنا السياسية الخاصة حتى عندما كان يلفظ الكلمة بشكل عشوائي على خصومه.

 

مشروع صدر القناة

بعد ظهر يوم دافئ في شباط / فبراير، سافرت إلى موقع بناء في شرق بغداد يسمى صدر القناة.

إنه شريط ضيق من الأراضي الشاغرة – متوسط ​​تقريبًا – يمتد لمسافة 15 ميلًا بين جانبي طريق سريع رئيسي على الحافة الغربية من حي مدينة الصدر الفقير، مع قناة في المنتصف.

وقد تحدثت سلطات مدينة بغداد لسنوات عن مشروع طموح لتحويل الممر إلى منطقة ترفيهية واسعة في الهواء الطلق، تشمل الملاعب الرياضية والحدائق والمطاعم والملاعب. سيتم بناء الجسور المزخرفة فوق القناة، حيث يركب الزوار ذهابًا وإيابًا على متن القوارب.

في عام 2011، وقعت حكومة المحافظة عقدًا مع ثلاث شركات إنشاءات مقابل 148 مليون دولار تقريبًا.

اليوم، الموقع عبارة عن مكب نفايات كئيب مع القليل من الدلائل على أنه تم إنفاق أي شيء عليه.

عند النزول من الطريق السريع على العشب، غاصت أقدامي بالقمامة البلاستيكية.

مشيت ذهاباً وعودة لمدة 20 دقيقة أو نحو ذلك ووجدت بعض علامات البناء فقط: ملعب أطفال جاهز رخيص يجمع الغبار، واثنين من المخابئ الخرسانية غير المكتملة، في القناة المبطنة بالخرسانة، بدت المياه نتنة.

 

حوار مع أحد الحيتان!

يبدو أن لا أحد يعرف بالضبط ما حدث للأموال التي ألقيت في صدر القناة، لكن تقرير هيئة النزاهة العراقية يشير إلى ملاحظات مألوفة للأسف: تأخيرات وخلافات ومحافظ سابق هرب مع أحد نوابه من البلاد بعد” مما تسبب في ضرر متعمد لأكثر من 12 مليون دولار، “معظمها، من المفترض، انتهى به الأمر في جيبه.

هناك مشاريع مثل هذه في جميع أنحاء العراق. رافعات مهجورة تصدأ، مساجد نصفية ومشاريع إسكان. العديد منها مقيد في النزاعات القانونية والسياسية.

أنفقت مليارات الدولارات على الكهرباء، ومع ذلك لا يزال العراق يعاني من انقطاع التيار الكهربائي حتى 20 ساعة في اليوم.

يستخدم العراقيون مفردة في وصف رجال الأعمال المشهورين وسماسرة النفوذ الذين ينموون ويثرون على حساب بلادهم: “الحيتان”. يقال على نطاق واسع أنهم فوق القانون. لقد تم تحذيري مرارًا، أثناء كتابة هذا المقال، بأن حياتي ستكون في خطر كبير إذا واجهت أيًا منهم بشأن أنشطته غير المشروعة. لكنني تمكنت في النهاية من التحدث إلى حوت.

لقد كان عملاق بناء عراقي وأخبرني أنه قضى سنوات في الدفع للسياسيين من أجل الحصول على عقود بقيمة ملايين الدولارات. ووصف عالمًا من صفقات الغرف الخلفية التي تشترك فيها المنافسات القاتلة، وتتحول التحالفات السياسية بسهولة وتكون العملة النهائية هي “النقد، دائمًا بالدولار، مقدمًا دائمًا”.

كان من الواضح أنه وافق على الكسب غير المشروع باعتباره أمراً واقعاً،  لم يشعر بأي قلق أو ذنب حيال ذلك، كان لديه مكاتب ومنازل في بلدان متعددة، لكنه تحدث باللهجة العراقية الحزينة كرجل متواضع المستوى التعليمي.

تعرفت عليه عبر مسؤول حكومي قابله من خلال صديق. كان من المستحيل بالنسبة لي التحقق من تفاصيل القصص التي رواها. لكنها متسقة مع كل شيء سمعته من المطلعين على الحكومة والمصرفيين حول طريقة عمل الفساد على مستوى عال.

تحدثنا عبر الهاتف لمدة ساعتين تقريبًا، أخبرني عن صفقة واحدة تمكن من إدارتها، وهو مشروع بناء كبير خصصت فيه الحكومة حوالي 40 مليار دينار (حوالي 33.6 مليون دولار).

“في الواقع، أنفقت حوالي 10 مليارات دينار فقط على البناء. أما بقية المبلغ، فقد ذهب معظمه إلى الدفع للمسؤولين الحكوميين والحزبيين، إلى جانب نفقات أخرى. والباقي، حوالي خمسة مليارات دينار (4.2 مليون دولار) ، كان ربحاً صافياً”.

 

أعضاء مجالس المحافظات يعرضون “خدماتهم”

أخبرني أنه على مدى السنوات الست أو السبع الماضية، تم انتخاب محافظي المحافظات العراقية – الذين يتمتعون بسلطة كبيرة على العقود – بشكل حصري تقريبًا من خلال صفقات مع رجال الأعمال الذين يدفعون لأعضاء مجلس المحافظة (الذي ينتخب المحافظ) مقابل حصة من عقود المحافظة.

وقال: “أي شخص لديه المال يمكنه التلاعب بهذه الأشياء”. وقد صيغت الصفقات بشكل متقن، حيث قام نواب المحافظين الموالون للأحزاب السياسية المختلفة بتقسيم العائدات المتوقعة من العقود اتضخمة. وقال إن عقدا كبيرا يمكن أن يوفر عمولات كافية لتغطية تكاليف رشوة انتخاب المحافظ.

إن المسؤولين الحكوميين ليسوا مجرد متلقين سلبيين للرشاوى. قال لي إن أعضاء مجلس المحافظة، “يطرقون أبواب رجال الأعمال ويقولون، كيف يمكننا المساعدة؟ هل لديك شخص تريد تسقيطه؟ هل هناك مؤامرة تريد الترويج لها؟  شخص تريد إحالته إلى هيئة النزاهة؟ “هذه الفنون المظلمة تتجاوز الولاء الحزبي. المال هو كل ما يهم. وقال: “إذا كنت تريد التآمر ضد حزب الدعوة، فإن أعضاء مجلس المحافظة من هذا الحزب سيتعاونون معك” إذا دفعت لهم.

 

وأخبرني أنه خلف كل هذه الصفقات، تتوارى الميليشيات وتقتحم تلك الصفقات، وتأخذ حصصها من المال. وقال: “إن أي رجل أعمال أو أي مالك بنك لا تدعمه ميليشيا لن يتمكن من العمل”.

لا شيء من هذا يمثل مفاجأة للعراقيين. لقد أصبحوا متشائمين لدرجة أنهم يرون الآن حتى مختلف هيئات مكافحة الفساد في البلاد كأدوات للابتزاز والرشوة. للأسف، هذه ليست تهمة لا أساس لها من الصحة تماما.

عندما كنت في بغداد، ذهبت لرؤية مشعان الجبوري، وهو رجل أعمال وسياسي مشهور بتصريحاته ضد الفساد.

الجبوري هو رجل كبير عمره 63 عاما وله رأس أصلع وعيون بارزة وأصبح أيقونة لصراع بلاده مع الفساد.

كان رجل أعمال في الثمانينيات وهرب من البلاد في نهاية العقد للانضمام إلى المعارضة. في عام 2006، اضطر الجبوري إلى الفرار من العراق مرة أخرى بعد اتهامه بمخطط ابتزاز متقن يتضمن هجمات على أنابيب النفط.

لكنه استعاد وضعه، وانتخب في البرلمان وانضم إلى لجنة مكافحة الفساد البرلمانية.

 

قال لي الجبوري بينما كنا نجلس في منزل يمتلكه في حي الحارثية: “الكل متورط، متدين، علماني، في القرى، في المدن، من كبار القادة إلى الحمالين، أصبحت ثقافة، إنه شيء يفخر به الناس”.

 

في عام 2016، تصدّر الجبوري عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم بإخبار أحد مراسلي الجارديان بأنه فاسد أيضًا. أخذ رشوة بقيمة 5 ملايين دولار من رجل أراد منه أن يتخلى عن تحقيق في الاحتيال. وقال للصحيفة “على الأقل أنا صريح بشأن ذلك”.

 

عندما رأيته في فبراير، تخلى الجبوري عن اعترافه، مدعيا أنه اخترع قصة الرشوة البالغة 5 ملايين دولار. حدقت به بعدم ثقة.

رد علي: “كنت بحاجة إلى هز المجتمع”. وأضاف أن مثل هذه الأكاذيب لم تعد ضرورية الآن، “إن الاحتجاجات الحالية تفعل ذلك”.

 

تظاهرات تشرين

بالنسبة لأولئك الذين يراقبون من قارة أخرى، كانت التظاهرات التي انتشرت في مدن العراق أكتوبر الماضي، تبدو وكأنها انفجار مفاجئ للغضب.

في الواقع، كان هذا الغضب يغلي لسنوات في المدن والبلدات في جميع أنحاء البلاد. أحد قادة الاحتجاجات الذين التقيت بهم كان موسى البالغ من العمر 28 عامًا، ترعرع في أسرة زراعية فقيرة في مدينة السماوة جنوب العراق.

(طالبني ألا أستخدم اسمه الأخير لأنه لا يزال مختبئًا ويخشى التداعيات) مثل العديد من الآخرين الذين تحدثت إليهم.

اصطدم موسى مرارًا بوحشية اقتصاد العصابات في العراق، حيث تكون المؤهلات الحقيقية غالبًا غير مهمة، وتأتي معظم عروض العمل بسعر رشوة كبير، يعادل راتب عدة أشهر.

بعد أن أمضى خمس سنوات في الحصول على درجة متقدمة في العلوم البيطرية، لم يتمكن من العثور على وظيفة بيطرية، باستثناءعقد لمدة عام واحد يستلم لقاءه 200 دولار شهريًا، تم فصله منه بعد أن رفض عرض رئيسه بالانضمام إلى ميليشيا.

لم يكن لديه خيار سوى الحصول على وظيفة في مديرية الكهرباء، التي كانت تدفع 375 دولارًا في الشهر.

 

بدأ تمرد موسى قبل أكثر من عامين، عندما أخبرني أنه وجد وثائق تشير إلى أن مديره في وزارة الكهرباء أصبح ثريًا من خلال الحصول على رشاوى على العقود الحكومية.

ساعد موسى في تنظيم احتجاجات تطالب بإقالة رئيسه. على مدار العام التالي، بدأ في إجراء اتصالات مع شبان آخرين في جميع أنحاء العراق لديهم تجارب مماثلة ويبادلونه الهموم.

يعتقد الكثير منهم أن بلادهم أصبحت تابعة لإيران والبلطجية المسلحين المحليين.

بحلول صيف عام 2019، كانت مجموعات من شبكات الاحتجاج المحلية تتحول إلى شيء أكبر. كان موسى من بين المنظمين الذين دعوا إلى ثورة وطنية تبدأ في الأول من أكتوبر.

بعد أسبوع، وجد نفسه جالسًا على أريكة أمام رئيس الوزراء عادل عبد المهدي. خارج أبواب الوزارة الخشبية العالية، كانت البلاد مشتعلة. وقتل أكثر من 100 شخص في اشتباكات مع الشرطة، وكان الاقتصاد في حالة جمود.

كان عبد المهدي يائساً من استعادة النظام، ودعا موسى وثمانية قادة احتجاج آخرين للاستماع إليهم. أعطاه موسى قصاصة ورقية تحدد مطالب المحتجين، قرأها بسرعة وصمت. كانت مكافحة الفساد إحدى المطالب، بعد حوار قصير، قال أحد مستشاري عبد المهدي: “أعطنا قائمة بأكثر الشخصيات فساداً”.

 

قال لي موسى إنه كان محتاراً وغاضبًا بسبب الطلب، كان يعلم بالفعل أنه مطلوب للقبض عليه من قبل الأجهزة الأمنية.

بعد ذلك بوقت قصير، سيُرغم على الاختباء، مثل العديد من قادة الاحتجاج الآخرين.

كان يعلم أيضًا أن بعض الشخصيات الأكثر فسادًا في البلاد قد تم الترحيب بهم على الأريكة نفسها.

أجاب: “هذه ليست وظيفتنا، هذه وظيفتك”. توترت الأجواء، وانتهى الاجتماع بعد 10 دقائق فقط.

أعلن رئيس الوزراء بعد فترة وجيزة أن الحركة الاحتجاجية كانت بلا قيادة. الشيء نفسه ربما قيل عن حكومة عبد المهدي المتعثرة.

بعد أقل من شهرين، من مواجهة احتجاجات أوسع نطاقا وارتفاع حصيلة القتلى، أعلن عبدالمهدي استقالته.

 

الميليشيات في وضع الدفاع للمرة الأولى

لقد فاجأ عمق حركة الاحتجاج وغضبه الجميع. كانت الميليشيات في وضعية الدفاع للمرة الأولى مرة منذ سنوات، حيث سخر منها بعض المتظاهرين ووصفوها بالعمالة لإيران. حتى أن بعض أعضاء الحشد الشعبي شاركوا في الحراك.

وصف لي أحدهم مكالمة هاتفية متوترة أخبر فيها رئيسه السابق: “إنها ثورة ضدك”.

في كانون الأول / ديسمبر، أقر البرلمان العراقي قانونًا تاريخيًا يسمح لهيئة النزاهة في البلاد بالتحقق من دخل الموظف العام مقابل أصوله وفرض غرامات كبيرة أو حتى السجن إذا لم يتمكن من إظهار مصدر شرعي للحصول على المال.

كان هناك طلب جديد على المساءلة يتسرب إلى جميع أنواع الأماكن غير المتوقعة. في بغداد ، قابلت محامية شابة تدعى مروة عبد الرضا، أخرجت هاتفها الخلوي وعرضت لي وثائق عن فضيحة صغيرة غريبة في نقابة المحامين العراقيين، والتي قدمت نفقات عالية للغاية لبناء حمام سباحة.

تم الكشف عن الاحتيال قبل يوم واحد فقط، قبل أن يتاح لأي من المحامين فرصة ارتداء ثوب السباحة. وقالت: “في الماضي، كان هناك الكثير من الإنفاق ولا شكاوى”. “الآن، المحامون يتحدثون بصراحة.”

ساعدت روح الحركة الاحتجاجية التي لا هوادة فيها في إبقائها على قيد الحياة – على الأقل حتى تفشي الوباء – لكن تأثيرها أصبح محدوداً مع مرور أشهر، رفض المتظاهرون بشدة ترشيح أي شخص للمنصب. وبدا أنهم عالقون في حلقة مفرغة.

أرادوا تغيير النظام، لكن أي شخص يقترب من هذا النظام، حتى نيابة عنهم، يصبح مشبوهًا على الفور.

أبطالهم الوحيدون هم رفاقهم الشهداء، الذين تظهر وجوههم في الكتابة على الجدران والملصقات في جميع أنحاء ساحات الاحتجاج.

 

في قلب حركة الاحتجاج في العراق، هناك صراع من أجل التحرر من تاريخ البلاد المعذّب. يفهم الكثير من الجيل الأصغر سنًا أن العراق – مثل العديد من المستعمرات السابقة الأخرى عبر إفريقيا وآسيا – رفع في كثير من الأحيان رجاله العسكريين ورجال الدين إلى آلهة، ليتحولوا إلى وحوش. وهذا أحد أسباب رفض المتظاهرين تفويض أي زعيم لتمثيلهم.

إنهم يعرفون أن ما يهم الآن هو العمل الدؤوب لبناء المؤسسات، وليس فكرة وجود منقذين. لكنهم أيضًا توّاقون لشخصيات عامة رائعة. مثل أي شخص آخر، يريدون أن يكون لهم مصدر إلهام وقيادة.

 

عبدالوهاب الساعدي

ظهر أحد القادة في وقت مبكر من الاحتجاجات، عبد الوهاب الساعدي هو أحد كبار مسؤولي مكافحة الإرهاب في العراق.

إنه محبوب في جميع أنحاء البلاد ليس فقط بسبب سجله العسكري – فقد قاد سلسلة من المعارك الحاسمة ضد داعش – ولكن أيضًا لأنه، وحده تقريبًا بين الضباط العراقيين، ليس متحزباً، ويقال إنه غير متورط بالفساد والرشاوى.

في سبتمبر الماضي، قام رئيس الوزراء العراقي بتهميشه فجأة. سرعان ما اعتبره المحتجون ضحية تم التخلص منه لأنه لم ينخرط في يلعب اللعبة. (كان هذا صحيحًا جزئيًا، على الرغم من أن التنافسات بين الفصائل لعبت دورًا أيضًا).

بدأ المحتجون بحمل صور الساعدي وهم يرددون اسمه. وطالب البعض بترشيح الساعدي خلفا لعبد المهدي رئيسا للوزراء.

كان رد فعل الساعدي مثيراً،  قال إنه رجل عسكري غير مؤهل لشغل منصب سياسي. أصيب بعض المتظاهرين بخيبة أمل، لكن البعض آخرين كانوا مسرورين، حيث اعتبروا تخليه إشارة إلى رفعته.

 

الساعدي يبلغ من العمر 57 عامًا ، وله ملامح نحيفة، وله جو من الرصانة المنعزلة وشعر رمادي. على الرغم من كونه شيعياً، إلا أن أهالي الموصل – وهم أغلبية سنية – يعتبرونه المحرر من داعش، وفي العام الماضي أقيم تمثال له هناك. (قامت الحكومة، -التي شعرت أنها مهددة- بإزالة التمثال قبل أن تتم إزاحة الستار عنه).

عندما التقيت به في فبراير، بدا الساعدي مستمتعاً بشكل اعتيادي بالاهتمام الذي كان يحظى به.

أخبرني عن سلسلة من المكالمات الهاتفية التي تلقاها من أصحاب النفوذ السياسي، وجميعهم يأملون في تجنيده أو الحصول على تأييده. قال باستخفاف وهو يسحب سيجارة: “يريد رئيس الوزراء أن يوظفني لكسب الرأي العام”.

 

بدا الساعدي غير مرتاح في الحديث عن نفسه. لديه نوع من التواضع الصارم، وكثيرا ما تكون يداه محشورتان في جيوبه، ونظرته ثابتة كما لو كان يقيم بهدوء مناورة ميدانية. بالنسبة لأي شخص معتاد على أخلاق الشخصيات السياسية العراقية، يشكل الساعدي نقطة فارقة.

وحيث أنهم غالبًا ما يكونون ممتلئين بالحيوية بالثراء، فهو هزيل ومتذمر.

غالبًا ما يمتلكون الساسة العراقيون منازل في لندن وعمان؛ لكن الساعدي يعيش في شقة في بغداد.

ليس لدي دليل على أن الساعدي لم يتورط بالفساد من قبل. ولكن هناك الكثير من الناس في العراق الذين يرغبون في إحراجه، ولم تظهر أي أدلة مساومة.

إنه غير فاسد لدرجة أنه عندما انضم ابنه إلى الجيش، رفض استخدام منصبه الخاص لمساعدة الصبي بأي شكل من الأشكال – وهو مستوى من النزاهة الشخصية التي اعتبرها بعض زملائه غير طبيعية.

عندما سألته عن ذلك، أخبرني أن والده توفي وهو صغير، وأعدم صدام حسين شقيقه الأكبر، واضطر إلى شق طريقه الخاص، أراد أن يمر ابنه بالتجربة ذاتها، قال لي الساعدي: “قلت له، عليك الاعتماد على نفسك، ولا علاقة لي بذلك”. “لم أساعده أبداً في الرتبة والعطلات والامتيازات”.

ذات مساء يوم الجمعة، التقيت الساعدي في مقهى يدعى رضا علوان، في حي من الطبقة المتوسطة. جلسنا على مائدة في الهواء الطلق، محاطة بمسودات دافئة من القهوة والهيل والتبغ المنكه. لديه سلوك قاسٍ وصامت، لكنه استرخى قليلاً عندما تحدثنا عن السياسة والتاريخ، مع انقطاع متكرر من الزبائن الذين أرادوا مصافحة أو صورة شخصية مع بطل الموصل.

منحهم الساعدي ابتسامة خجولة، وعندما سألوه عما إذا كان سيلعب دورًا في الحكومة الجديدة، كان يلوح لهم بعبارة “إن شاء الله” غير الملزمة. (بعد لقائنا، أعاد رئيس الوزراء العراقي الجديد مصطفى الكاظمي ترقية الساعدي).

 

ثم حاولنا مغادرة المقهى. وبمجرد وقوفه، تعرف عليه الناس في الشارع، وكان محاطًا بحشد كبير من المعجبين. صبر على الصور الشخصية وصافح. تباطأت السيارات للحصول على نظرة. “مرحبًا، انظر، إنه الساعدي!” سمعت شخصاً يصرخ، بدأت امرأة بالهتاف،. كان حراسه الشخصيون يبدون متوترين، لكن لم يكن بإمكانهم فعل شيء. الكل أراد لحظة مع الساعدي.

 

بعد 15 دقيقة، كان ما يزال على بعد أمتار قليلة من المقهى، وكان الشارع غير سالك. بدأ رجل في منتصف العمر بارتجال أهزوجة عن الساعدي ودوره في إنقاذ العراق من داعش، صفق المتفرجون على وسعدوا بها. ركض سائق تاكسي شاب يرتدي جلابية سوداء، وشق طريقه وسط الحشد وبدأ يخبر الساعدي أن شقيقه قتل في ساحة الاحتجاج في بغداد. وشكر الساعدي على كل ما فعله.

صعد جندي يرتدي خوذة وسترة واقية من الرصاص وبدأ يتوسل الساعدي ليصبح وزير الدفاع المقبل. ثم دخل ضابط شرطة قائلاً: “نريده وزيراً للداخلية”.

 

وقفت في الظلام، تأثرت بمشاهدة تلك الوجوه الطموحة المليئة بالأمل. كل ما يطالبون به هو أمور مسلّم بها، على الأقل في الوقت الحالي: موظفون صادقون نسبيًا، شوارع نظيفة، وضباط شرطة لا يطلبون الرشاوى، إنهم يريدون دولة.

——–

روبرت ف. وورث، كاتب وصحفي أميركي، غطى النزاعات حول العالم، بما في ذلك في كوسوفو والعراق وأفغانستان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *