طبول الحرب الأخيرة
عبدالهادي مهودر
في الأزمة الامريكية الايرانية يجري التركيز على العراق لأسباب عديدة ونتيجة لوضع شائك وعلاقات معقدة مع محيطه الخارجي ومع قواه السياسية بين ودية وندية وحب وحرب ، وفي الذاكرة القريبة الف كيلومتر من الحدود العراقية الايرانية المشتركة وحرب امتدت ثمان سنوات وخلفت خرابا ينوء بحمله الشعب العراقي حتى اليوم ، وفي الذاكرة الأقرب الاف الكيلومترات التي قطعتها امريكا لتصل الينا وتسكن معنا ، وكلا البلدين يؤثران في حاضرنا ومستقبلنا وسيبقيان الاقرب الينا من حبل الوريد مايستدعي علاقات طبيعية واتفاقا شاملا يضمن للعراق استقرارا دائما لابديل عنه ليبقى العراق على قيد الحياة ، غير ان مايربطنا بإيران عوامل الجغرافيا والتاريخ ، وجوار ودين وحضارتان متجاورتان منذ القدم ، وليس لنا مع امريكا حدود لكنها دولة كبرى استطاعت ان تقرب المسافات بنفوذها الواسع وقواتها المنتشرة في الاراضي والبحار والسماوات ، ومشكلة امريكا الجوهرية مع ايران هي لأنها كانت أهم حليف لأمريكا والأقرب الى قلبها في المنطقة وتحولت بثورتها الاسلامية عام ١٩٧٩ الى عدو مبين ، وكل ذاك الحب أمسى خبرا وحديثا من احاديث الجوى ، وقبل هذا التاريخ كانت علاقات الدول العربية مع ايران قوية رغم اقامتها لعلاقات مع اسرائيل ، وخلافا لمنطق صديق عدوي عدوي ، وحين أطيح بشاه ايران لجأ الشاهنشاه المخلوع الى الاشقاء العرب ودفن في ارض الكنانة ، غير ان علاقات العراق مع ايران لم تكن طبيعية كما هي علاقاتها مع بقية العرب ، ولم يتوقف شاه ايران الا مقابل تنازل العراق وحصوله على نصف شط العرب باتفاقية الجزائر وخط التالوك ، وخلافا للمنطق نفسه لم يدعم العراق الثورة لكنه اعلن تأييده لقيام الجمهورية الاسلامية في نهاية المطاف كما ايدتها الدول الكبرى بما فيها امريكا ، فالدول تتعامل مع الأمر الواقع ومع المنتصر الذي يمسك الأرض .
وبعد عام واحد بدأت الحرب العراقية الايرانية بتأييد ودعم عربي ودولي ، وبعد عشر سنوات بدأت حرب تحرير الكويت بدعم عربي ودولي ايضا ، وبعد اكثر من عشر سنوات اخرى اي عام ٢٠٠٣ بدأت امريكا حربا كبرى بتأييد وتحالف عربي ودولي كذلك ، واعلنت الولايات المتحدة نفسها دولة محررة ومحتلة للعراق ومجاورة لايران بلمح البصر .
ومنذ ذلك اليوم وحتى يومنا الحاضر بقيت ابرز عقبة في اعلان الحرب مجددا على ايران هو عدم وجود ارض عربية لخوض المعركة الامريكية الايرانية ولو ليوم او لشهر واحد وليس لثمان سنوات ، فالدول العربية تدفع بهذه الحرب نحو الاراضي الايرانية ومياه الخليج وليس على اراضي دول الخليج ، ولانفشي سرا انه في الوقت الذي كانت الحرب تدور رحاها على ارضنا وملعبنا وحدودنا البرية وتتوقف الحياة في مدننا ثمان سنوات كان الاشقاء يبنون دولهم واقتصادهم وتعلو البنايات الشاهقة في عواصمهم ويرتفع دخل المواطن الخليجي ومستوى معيشته ورفاهيته ، ويلمس العراقي الفرق الكبير بين حال بلاده وتحطم بناها التحتية والفوقية والتقدم المذهل الذي تعيشه دول الخليج ، وعلى العراقي ان لايكتفي بالسؤال عن سر تخلف بلاده وانما بمعرفة الجواب : انه الفرق الشاسع بين عهود الحرب والسلام وفرق السنوات الثمان وماتبعها من سنوات خراب متراكم ونتائج وخيمة على شعبنا ومن حروب متواصلة كانت فيها دول الخليج تتقدم والعراق يتخلف ويتحطم والسياسات كمن يحمل طينا ويلقيه على رأسه ، بما في ذلك ايران التي انتهت لديها الحرب عام ١٩٨٨ وبدأ فيها فصل تنمية وبناء وثورة نووية ، بينما استمرت حالة الحرب في العراق منذ نصف قرن وبلا توقف ، وليس عيبا ولاعارا على دول الخليج ان تبعد نيران الحروب عن ارضها وتحمي مواطنيها كما فعلت بذكاء ودهاء في حروبها خارج حدودها ، وحتى في المواجهة المحتملة بين امريكا وايران ستبذل دول الخليج كل ماتستطيع من اجل إبعاد الخطر عنها وحصره في ايران او في اي جزء عربي آخر يلعب دور حمالة الحطب ولايبالي ان وقعت عليه الحروب او وقع عليها ، ولذلك يكثر الحديث عن جر المنطقة لحروب بالإنابة تمهيدا لتهيئة اجواء وارض بديلة للمواجهة العسكرية ولتصفية الحسابات والديون السابقة ، او حروب صواريخ واهداف محدودة ، ولا أحد منهم يحلم بحرب شاملة إلا اذا كانت ( خارج ارضه ) ، كما ان امريكا ذاتها هي اكثر دولة في العالم تحارب اعداءها عن بعد وخارج اراضيها او في اراضي العدو نفسه وعقر داره وهذا النهج لاينم عن غباء او ضعف .. فمن يتبرع بأرضه ويستأجرها ساحة للحرب الامريكية الايرانية ؟ لا أحد حتى الآن ، ولا بديل غير ان تكون حرب صواريخ ذكية خاطفة سيادة الرئيس : فمدننا ليست البصرة وعواصمنا ليست بغداد ودولنا ليست العراق ومواطننا ليس العراقي الذي منذ فجر الارض يلبس خوذته !
وسواء وقعت الحرب او لم تقع ، فالعراق بعد كل تلك التجارب الخاسرة والمريرة التي وقعت جميعها على ارضه يقف وحيدا في مرحلة مراجعة لشريط الذكريات القاسية واختبار للذكاء هذه المرة محتاجا اكثر من اي دولة اخرى الى عهود سلام طويلة فحرب اخرى هي الضربة القاضية والأخيرة على انفاس هذا البلد ، ومن العقل ان نفكر مثلهم لمرة واحدة ونبعد شر الحرب عن ارضنا بأية وسيلة من الوسائل ، وأسلمها ان نكون ساحة حل لا ساحة حرب في هذه المنطقة التي لاتقترح الحلول ولاتحب الحلول ، وتتوالد فيها الحروب بشكل ليس له نظير ، وفي هذه المنطقة التي تقرع فيها طبول الحرب وكأنها طبول فرح لأنها المنطقة الارخص بسعر الانسان ، والمنطقة التي يعتقد فيها المحاربون القدامى والجدد انهم سيقطفون وحدهم ثمار الحرب فيما بعد ، وليس للوطن بعد الحروب ( فيما بعد ) غير الرماد ؟!