اعتذار في باب توما
رباح آل جعفر
منذ خمس وثلاثين سنة وأنا أكتب في الصحافة.. في جريدة العراق أتذكرهم واحداً واحداً: عز الدين سلمان “اليساري الضاحك” أو “ستالين” كلما تقابلنا على سلّم الجريدة كنت أسأله: لماذا أطلقت اسم “كردستان” على ابنتك؟ فيردّ عليّ ساخراً “وهل أسمّيها أمريكا”؟!.
أما مظهر عارف فقد كان على الدوام “في انتظار غودو” يأتي ولا يأتي. كان من ظرفاء الصحافة وكان لا يروي النكت. إنما يصنعها من خياله. يصافحنا دون أن نعثر على الإصبع الخامسة في كل من يديه. وكان صانع مانشيتات الصفحة الأولى صباح اللامي أو “القاموس المحيط” لقدرته اللغوية. أما سالم العزاوي فكلما انتفض غضباً على ما يفعله قلم رئيس التحرير بمقالات المحررين أطفأنا غضبه بسيكارة من نوع سومر ليهدأ!.
وكان رئيس التحرير صلاح الدين سعيد يعتني بمظهره وهندامه أكثر مما كان يعتني بمطبوعه لأنها كل ما لديه في الصحافة وربما في الحياة.. ثم يقابلك طه عارف بابتسامته الفارقة وملابسه المزركشة بالألوان وقد اكتفى في آخر أيامه أن يصدر أعداداً من جريدة “المنار” ليدفع من إعلانها إيجار بيته بعدما أمضى حياته مستأجراً في الأعظمية. ويواجهك موحان الظاهر بصخبه وقفشاته وحكاياته عن “ريف الحلة ودواوينها”.. لتنتهي بحكايات هارون محمد وانشغالاته وبأحمد شبيب مهندس الحرف في المطبعة وحارس الصفحة الثقافية الصارم “أبو صارم”!.
وفي جريدة العراق كانت تكثر الكتابة باسماء مستعارة لكي يزيد الكتّاب والمحررون من مكافآتهم. مرة قال لي رئيس التحرير: أنت تكتب في جريدتين وتكتب باسم مستعار. أين تذهب كل هذه الفلوس؟!.
وكنّا مجموعة من المحررين نجتمع في الطابق الثالث أمّا رئيس التحرير فكان مكتبه في الطابق الثاني. وعندما كنّا نريد لمقال أن يأخذ طريقه للنشر دون شطب فإننا نرسله بيد عامل الخدمة العم القروي الطيّب “أبو حسن” ونوصيه أن ينزل إلى رئيس التحرير ويقول له إن هذا المقال “اجاك من فوك” فينهض واقفاً معتقداً إنه جاء من رئاسة الجمهورية!.
ولقد جرّبنا يوماً إسلوباً جديداً في الصحافة، هو أن نبعج البالون بإبرة. وكان أول هذه البالونات حين نشرنا في الصفحة الأخيرة عن “قاص ستيني مصاب بالذاتية المتطرفة، يدّعي أنه مالئ الدنيا وشاغل دور النشر في أوروبا بدراسات وترجمات عن أدبه، لم نسمع بها ولم نقرأها، لولا إعلاناته المجانية عنها في الصحف”. وكان التوقيع يحمل إسم “متعب بن تعبان” المستعار من قصيدة لنزار قباني!.
ويبدو أن صديقنا الروائي المبدع عبدالرحمن مجيد الربيعي ظنّ أنه هو المقصود بما منشور، فجاءنا ذات ليلة شتائية ماطرة إلى “العراق” وبصحبته القاص الراحل غازي العبادي والناقد ماجد السامرائي. كان الربيعي يتأبط عدداً من الكتب والدراسات التي قال إنها تثبت ما أنكرناه وكان يسألنا بعتب شديد: من هو متعب بن تعبان؟ وكان علينا أن ندافع، ولعلنا أضعنا الوقت عبثاً ونحن نحاول الاعتذار، فاضطررنا أن نلقي التهمة على صديقنا حسن العاني. وجلس الربيعي يكتب رداً نشرناه في اليوم التالي، انبرى في سطوره يصب اللعنات على كاتب تلك السطور مستغرباً أن تمرّ هذه “الحكاية” من تحت قلم زميلنا العزيز زيد الحلي!.
مرّت سنوات طوال حتى التقيت مع عبد الرحمن الربيعي في مطعم دمشقي بباب توما وكان معنا الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد والكاتب البديع فاضل الربيعي. حين انتهينا من الغداء سألته: هل تتذكر “متعب بن تعبان”؟ قال: كيف لا أتذكره. سامح الله حسن العاني! قلت والله يا مولانا إن العاني برئ من هذه التهمة. وأنني أنا من كتبت تلك السطور، بقصد تحريك الجو الراكد، وما أثقله في تلك الأيام!.
ابتسم الربيعي مستغرباً.. ثم ضحكنا نحن الثلاثة من حناجرنا!.