وتحققت أمنيته ليلة وفاته
رباح آل جعفر
أحب أن أستمع إلى عذوبة التلاوة من إذاعة القرآن الكريم. إلى نفحة من نفحات الإيمان. أحب الاستماع إلى تسجيلات الحافظ خليل، والحاج محمود عبد الوهاب، والحافظ صلاح الدين، والحاج سعيد حسين القلقالي، والحافظ عبد الستار الطيار، وأصوات من ذلك الجيل الذهبي أساتذة المدرسة البغدادية للتلاوة العراقية بأشجانها وأنغامها وأحكامها ومقاماتها، لقد كان بحق عصر القراء الكبار من الذين نقشوا أسماءهم على جدار الزمن.
فعلى الرغم من الأصوات الكثيرة التي جاءت من بعدهم والزحام الشديد، وما وصلت إليه التلاوة في الإذاعة والتلفزيون بالواسطة والمحسوبية والنفاق، فقد بقيت هذه الأصوات يسمعها مثلي الملايين من الناس. يعيشون في رحاب كتاب الله العزيز، وتستولي على قلوبهم ألحان السماء.
زمان.. كنت كلما أدخل مسجداً أو أحضر مجلس عزاء أجد قارئ القرآن رجلاً ضريراً. أجول ببصري وأتفقده وأنا أتتبع صوته، فأراه منزوياً في آخر المجلس يغطي عينيه بالنظارات السود. فكثير من هؤلاء فقدوا أبصارهم في الدنيا فأضاء الله بصيرتهم ووهبهم أصواتاً كلها نبض وإحساس تعشقها من المرة الأولى. وهؤلاء تعلّموا التلاوة وأحكامها عن طريق الكتاتيب التي كانت منتشرة في تلك الأيام، وكثيرون منهم يجدون في تلاوتهم للقرآن الكريم باباً للرزق.
وبعضهم كان يكتفي من هذا الرزق بأكل بطونهم أجراً على قراءتهم. أو أنهم يرجعون إلى بيوتهم بمبلغ من المال يدسّه صاحب المناسبة في جيوبهم بالكتمان، وهو مبلغ تافه لا يكفي لسد مصروفات يوم واحد. وآخرون منهم يعودون إلى بيوتهم بالأجر والثواب، أو يخرجون من المولد بلا حمص!.
ولكن أكثر من أوجعني من القراء وأحزن قلبي وآلمني هو الشيخ عبد اللطيف العبدلي. لقد زارني قبل وفاته بأسبوع واحد متنبئاً بموته. يومها قال لي بعتب شديد: لماذا لا تتحدثون عن سيرة القراء من الأحياء وأنا واحد منهم في برنامجكم التلفزيوني “سفراء القرآن”؟!.
أضاف بنبرة أسف: هل من المعقول أنكم تتحدثون فقط عن “القراء الأموات”. طيّب أنا سأموت بعد أسبوع وبعدين اعملوا عني البرنامج!.
قلت: عمرك طويل وعليك بالصبر وأن تتحمّل قليلاً.
قال: والله لقد تعبتُ وتحملتُ وصبرتُ بما فيه الكفاية ولديَّ أمنية عزيزة أن أرى برنامجاً يتحدث عن سيرتي تحت راية القرآن العظيم. ومن يدري لعلكم تنتظرون موتي لعرض البرنامج. ثمَّ ماذا ينفع الميت من كلام يُقال مدحاً أم قدحاً؟!.
ورفعت سماعة التلفون واتصلت بالمخرج وكاتب السيناريو وطلبت منهما العمل على إنتاج ساعة وثائقية تلفزيونية عن القارئ العبدلي. ابتهج الشيخ بما سمع من كلام ولملم أطراف عباءته المقصّبة باللون الأصفر، وتشجّع فطلب أن يكون العرض في غضون أسبوع، وقال: والله إنني سأقابل ربّي بتلاوات القرآن.
اتصلت بالشيخ العبدلي بعد أسبوع أخبره أن يشاهد برنامجه في ذلك المساء. شكرني على الاهتمام. لكنني فوجئت بصوت منكسر حائر يريد أن يقول لي شيئاً في نفسه لا يستطيع أن يعبّر عنه بالكلمات. شعرت بضعف صوته وخذلان قلبه. كأنما كان ينتظر زائراً غريباً يطرق الباب.
في اليوم التالي اتصل بي صديقنا الدكتور صلاح النعيمي ويومها كان مدير المركز العراقي للقرآن الكريم يطلب مني أن أكتب نعياً على الشاشة. سألته: خيراً إن شاء الله.
أجابني بحزن عميق: الشيخ العبدلي. مات هذا اليوم بعدما التقينا في مكتبك قبل أسبوع. ثمّ أنه ترك ورقة بيضاء عليها إمضاؤه يشكرك فيها على عرض البرنامج!.